موت المغني!
صفحة 1 من اصل 1
موت المغني!
موت المغني!
رشيد الخيُّون
سواء رغبنا في فن «البوب»، الذي أُجلس المغني الشهير مايكل جاكسون (ت 2009) ملكاً على عرشه، أم لم نرغب، فإن هذا يقلل من حزن الملايين على مغنيهم. ولعلَّ تشييع جنائز المغنين والمطربين يعطي صورة عن اتساع شعبيتهم. هذا ما كان للراحلين محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ. ولو تبنى محبو داخل حسن (1909- 1985) مثلاً، تنظيم جنازة شعبية له، لخرجوا وحداناً وزرافات. إلا أن جنائز مغنينا عادة تظل محصورة بالقريبين والفنانين أنفسهم.
بهذا لم ترتق بغداد اليوم إلى ما كانت عليه في الأمس العباسي. قرأت ما نصه في كتاب تاج الدين علي بن أنجب المعروف بابن الساعي (ت 674هـ)، وحققه مصطفى جواد، العام 1934، ما نصه: «البدر محمد بن الفراش المغني شاب جميل الصورة، مشهور بحسن الغناء، وطيب الصوت، وكانت وفاته يوم الأحد حادي عشر صفر المذكور (السنة 598 هـ) وشيعه خلق كثير، وفُجع الناس به، وحزنوا عليه» (الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير).
أليس هو مايكل جاكسون بغداد آنذاك؟ هذا، إذا علمنا أن فن الغناء مارسه خلفاء ووجهاء كبار، ومنهم مَنْ كان ملحناً مثل هارون الواثق بدين الله العباسي (ت 233هـ). ولم يعب الواثق في حكمه غير شدته في محنة خلق القرآن على بعض المخالفين، وإلا جاء في سيرته: «كان كريم النفس عالي الهمة، يتشبه بالمأمون في أخلاقه وحلمه وكان هو الذي رباه. وحج بالناس، وكان كثير الإحسان إلى العلويين، مراقباً تعالى في جميع أحواله وأقواله» (ابن الكازروني، مختصر التاريخ من أول الزمان إلى منتهى دولة بني العباس).
عود على بدء، مايكل جاكسون نقش اسمه، عبر صوته وأدائه، في التاريخ العالمي، حزن عليه محبوه من القارات وشبه القارات كافة. لكن تلك الشعبية ليست كما يتصورها مَن لا يميزون بين المجالات، ويفرقون بين أسباب الشعبية. لذا ظن البعض، أن جاكسون، أو الفيس برسلي قبله، أنهما لو رشحا للرئاسة الأميركية لفازا فوزاً ساحقاً. إلا أن في هذا التصور قلة معرفة وإدراك، فالناس أحبت برسلي وجاكسون لغنائهما، لا لشيء آخر. إلا أنهما يرشحان في قوائم مغلقة، مثلما انتخب أهل العراق ممثليهم في البرلمان كالعميان، وعساها لن تتكرر.
ليس هناك أصدق من شعبية المغنين، لأنها تجذب العواطف بلا تأثير قومية أو دين أو مذهب، أو أي مصلحة أخرى، وفي بعض الأحايين تخترق تلك الشعبية حاجز اللغة. فكم من الألوف المؤلفة، التي تسمع لمايكل جاكسون، من دون معرفة الإنكليزية التي يُغني بها، وهل كان مستمعو كوكوش الإيرانية، من العرب، لهم معرفة بالفارسية؟ إنها الألحان وحركات الجسد، وأبلغ منهما صدق المغني، أو الموسيقي، لا ركضه وراء الشهرة، بكثرة الإعلانات والدعاية لنفسه، إنما الصادق مَنْ يؤمن بموهبته وينزهها من سوقية السوق. والأمر ينطبق على الشاعر والكاتب أيضاً، وكل مَنْ يمارس الفنون بموهبة وإقتدار. هذا ما كان عليه البدر الفراش (ت 598 هـ)، ومايكل جاكسون (1430هـ) على حد سواء.
إن كثرة المشيعين، من دون تحريض، دلالة على منزلة صاحب الجنازة. فلما أراد ابن قتيبة، الضاغن ضد أهل الرأي، الحط من منزلة أحد أقطاب مدرسة الرأي العراقية إبراهيم النخعي الكوفي (ت 96هـ) قال في تشييع جنازته: «ما كان فيها إلا سبعة أنفس» (المعارف).
--------------------------------------------------------------------------------
رشيد الخيُّون
سواء رغبنا في فن «البوب»، الذي أُجلس المغني الشهير مايكل جاكسون (ت 2009) ملكاً على عرشه، أم لم نرغب، فإن هذا يقلل من حزن الملايين على مغنيهم. ولعلَّ تشييع جنائز المغنين والمطربين يعطي صورة عن اتساع شعبيتهم. هذا ما كان للراحلين محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ. ولو تبنى محبو داخل حسن (1909- 1985) مثلاً، تنظيم جنازة شعبية له، لخرجوا وحداناً وزرافات. إلا أن جنائز مغنينا عادة تظل محصورة بالقريبين والفنانين أنفسهم.
بهذا لم ترتق بغداد اليوم إلى ما كانت عليه في الأمس العباسي. قرأت ما نصه في كتاب تاج الدين علي بن أنجب المعروف بابن الساعي (ت 674هـ)، وحققه مصطفى جواد، العام 1934، ما نصه: «البدر محمد بن الفراش المغني شاب جميل الصورة، مشهور بحسن الغناء، وطيب الصوت، وكانت وفاته يوم الأحد حادي عشر صفر المذكور (السنة 598 هـ) وشيعه خلق كثير، وفُجع الناس به، وحزنوا عليه» (الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير).
أليس هو مايكل جاكسون بغداد آنذاك؟ هذا، إذا علمنا أن فن الغناء مارسه خلفاء ووجهاء كبار، ومنهم مَنْ كان ملحناً مثل هارون الواثق بدين الله العباسي (ت 233هـ). ولم يعب الواثق في حكمه غير شدته في محنة خلق القرآن على بعض المخالفين، وإلا جاء في سيرته: «كان كريم النفس عالي الهمة، يتشبه بالمأمون في أخلاقه وحلمه وكان هو الذي رباه. وحج بالناس، وكان كثير الإحسان إلى العلويين، مراقباً تعالى في جميع أحواله وأقواله» (ابن الكازروني، مختصر التاريخ من أول الزمان إلى منتهى دولة بني العباس).
عود على بدء، مايكل جاكسون نقش اسمه، عبر صوته وأدائه، في التاريخ العالمي، حزن عليه محبوه من القارات وشبه القارات كافة. لكن تلك الشعبية ليست كما يتصورها مَن لا يميزون بين المجالات، ويفرقون بين أسباب الشعبية. لذا ظن البعض، أن جاكسون، أو الفيس برسلي قبله، أنهما لو رشحا للرئاسة الأميركية لفازا فوزاً ساحقاً. إلا أن في هذا التصور قلة معرفة وإدراك، فالناس أحبت برسلي وجاكسون لغنائهما، لا لشيء آخر. إلا أنهما يرشحان في قوائم مغلقة، مثلما انتخب أهل العراق ممثليهم في البرلمان كالعميان، وعساها لن تتكرر.
ليس هناك أصدق من شعبية المغنين، لأنها تجذب العواطف بلا تأثير قومية أو دين أو مذهب، أو أي مصلحة أخرى، وفي بعض الأحايين تخترق تلك الشعبية حاجز اللغة. فكم من الألوف المؤلفة، التي تسمع لمايكل جاكسون، من دون معرفة الإنكليزية التي يُغني بها، وهل كان مستمعو كوكوش الإيرانية، من العرب، لهم معرفة بالفارسية؟ إنها الألحان وحركات الجسد، وأبلغ منهما صدق المغني، أو الموسيقي، لا ركضه وراء الشهرة، بكثرة الإعلانات والدعاية لنفسه، إنما الصادق مَنْ يؤمن بموهبته وينزهها من سوقية السوق. والأمر ينطبق على الشاعر والكاتب أيضاً، وكل مَنْ يمارس الفنون بموهبة وإقتدار. هذا ما كان عليه البدر الفراش (ت 598 هـ)، ومايكل جاكسون (1430هـ) على حد سواء.
إن كثرة المشيعين، من دون تحريض، دلالة على منزلة صاحب الجنازة. فلما أراد ابن قتيبة، الضاغن ضد أهل الرأي، الحط من منزلة أحد أقطاب مدرسة الرأي العراقية إبراهيم النخعي الكوفي (ت 96هـ) قال في تشييع جنازته: «ما كان فيها إلا سبعة أنفس» (المعارف).
--------------------------------------------------------------------------------
ماهر المنشداوي- عدد المساهمات : 5
تاريخ التسجيل : 09/08/2009
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى